المدينة نيوز :- ظلت مكسورة، مأزومة، تصارع رياح الشتاء تارة، وزعابيب الصيف تارة أخرى. تئن مرة تحت وطأة أتربة هبت تخالفت مع مياه صرف صحي طفحت، وتتألم مرات لاتخاذ الأطفال منها «منطاً» بديلاً عن الـ»ترامبولين» (جهاز للقفز)، وحاجزاً محل عارضة الأهداف. ظلت هكذا منذ أحداث عنف شهدها الحي أثناء ثورة كانون الثاني (يناير) 2011.
وقبل أيام، استعادت عزتها واسترجعت مكانتها، ووجدت من يعيد بهاءها، ويُحسن طلتها، ويرفعها إلى سابق موقعها. «مركز شباب «! هكذا تقول اللافتة. ولكل أن يقول كيفما شاء. فبين ما تشرحه اللافتة من رياضات كرة القدم والسلة والتنس، وفنون الكاراتيه والكونغ فو والجودو، واللقاءات الفكرية والحلقات الثقافية والورش التدريبية، وبين ما يعكسه الواقع القابع أسفل اللافتة خلف البوابة. هوة سحيقة وفوارق عميقة هي ذاتها التي تفصل بين الـ»يوتوبيا» والفاصوليا.
بائعة الفاصوليا المتمركزة على باب مركز الشباب حيث التدريب الرياضي والتأهيل التدريبي ضمن لائحة طويلة تنضح بها اللافتة، ترد على سؤال معلوماتها عن المركز بطلب «الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)». تقول: «هم يقولون كما يشاؤون. لا فيه شباب ولا فيه مركز بهذا المعنى. المركز مجرّد صالات تؤجر لإقامة الأفراح. وقبل تعيين حارس على البوابة، كان بعض الصبية يقفزون من على السور يلعبون كرة القدم في الداخل. وأعرف أن بعضهم أيضاً كان يتخذ منه مكاناً آمناً لتعاطي المخدرات بأنواعها».
أنواع مختلفة من الرياضة يزاولها الأطفال في مصر بدءاً من الكرة بأنواعها، مروراً برياضات الماء من غطس وسباحة وباليه، وإنتهاء برياضات الدفاع عن النفس واليوغا والرقص. الجملة السابقة صحيحة مئة في المئة، لكنها غير شاملة، وغير وافية، وغير عادلة مئة في المئة. فمزاولة الأطفال للرياضة في مصر، باستثناء كرة القدم الملعوبة في الأزقة والحارات من دون كلفة أو تدريبات، تظل عموماً إما مسألة حظ، أو حكاية ثراء.
مؤثرات
ثراء الأهل عامل مؤثر إلى حد بعيد، وأحياناً يكون المؤثر الوحيد، في قدرة الطفل على مزاولة الرياضة. فباستثناء حالات نادرة جداً من مراكز الشباب الحكومية التي تُقدم فيها خدمات التمرينات الرياضية، وعدد أقل ندرة من المدارس الحكومية التي تهتم بحصة التربية الرياضية، إن وجدت فعلياً في جدول المدرسة، يمكن القول بثقة إن الرياضة لأبناء القادرين فقط.
أبناء القادرين الذين ورثوا عضوية النوادي الرياضية الراقية، حيث الاشتراكات السنوية العالية التالية لقيمة الحصول على العضوية الباهظة جداً، يزاولون أنواعاً عدة من الرياضة في مقابل اشتراكات شهرية تسدد لخزينة النادي. وحتى في هذه الحالة، يُسمع على استحياء (احتراماً للمكانة الاجتماعية) شكوى حول كلفة الملابس والمعدات الرياضية. فمن مضارب سكواش يصل سعر الواحد منها إلى ألف جنيه مصري وأكثر، إلى ثوب سباحة مضاد للاحتكاك بالماء، أو قفازات تيّسر عملية تسديد اللكمات، يجد أولياء الأمور أنفسهم مضطرين إلى تخصيص جانب من الموازنة لرفاهة الأبناء الرياضية.
ومن رحم الرفاهة تولد المعاناة. صحيح إنها معاناة حكر على الطبقات المقتدرة، والفئات المرتفعة، إلا إنها تظل معاناة.
أروى (32 سنة) تشكو من نوعية «المايوه» المصري الذي اشترته لابنتها بطلة السباحة الواعدة بعدما حاولت أن تخفّض موازنة ألبسة البحر، فتحوّل القماش المطاطي إلى قوام مهترئ، وانقلب اللون الأحمر القاني إلى بني باذنجاني، فكان أن تحول إلى قطعة قماش لتنظيف أسطح المطبخ.
مطبخ صنع أبطال الرياضة يهيمن عليه أكثر من طاه. ولي الأمر، سواء كان قادراً على التمويل أو يئن تحت وطأته، الدولة الراعية للرياضة سواء كانت تكتفي بالبيانات أو تحلّق في آفاق الفساد والتجاهل، المدرسة سواء كانت مجهّزة بأحدث الملاعب والأجهزة حيث المصاريف بالآلاف، أو حولّت الملعب إلى قاعة درس حيث مجانية التعليم وتدهور التربية، إدارة مراكز الشــباب سواء فيها قدر من ضمير أو يسيطر عليها البلاطجة وأصحاب المصالح، إدارات النوادي الرياضية الراقية سواء المهتمة بالارتقاء بمكانة الرياضة وصناعة الأبطال أو شغلها الشاغل مصالح شخصية واشتراكات سنوية، مدربون سواء كانوا قادرين على اكتشاف الأبطال وتنمية المواهب وصناعة البطولات أو كان همهم تأمين دخل شهري ثابت والسفر في عداد البعثات الرياضية.
تقويم مختلف
الأطراف الضالعون في منظومة مزاولة الرياضة للأطفال كثر. بعضهم يحرّكه الإيمان بدور الرياضة وأهميتها، وآخرون تحرّكهم المكاسب المادية، أو النجاحات السياسية، أو حتى الفوز في انتخابات مجالس إدارات النوادي.
وبقدر اختلاف الإمكانات، وتعدد الرياضات، وتراوح المفاهيم يختلف الأطفال أنفسهم في تقويم قيمة الرياضة وتقديرها. فمنهم من يحلم بمزاولتها، لكن ضيق ذات اليد يقف حائلاً، ومنهم من تمكّنه أحوال أهله المادية من ذلك، لكنه لا يهواها، ومنهم من يتمتع بكليهما. «الحياة» التقت ثلاثة أطفال يمثلون التوجهات الثلاثة. «فاطمة» (11 سنة) ابنة حارس عقار وطالبة في المرحلة الابتدائية. سؤالها عن مزاولتها الرياضة يقابل بنظرة شك مصحوبة باستنكار ولا تخلو من لوم. «لا طبعاً». تأتي الإجابة سريعة من دون تفكير. «يعني أجري وأنط أمام الأولاد؟ عيب وحرام». هناك من أفهمها إن الرياضة للبنت عيب، وهناك من أقنعها إنها حرام. لكن قليلاً من التوضيح يزيل اللغط لكنه يفتح باباً ربما من الأفضل إغلاقه. ترى صور فتيات يزاولن الجمباز، وأخريات السباحة والباليه المائي. تخرج منها كلمة «الله» من دون تفكير. لقد أعجبتها الصور، وليتها ما أعجبتها!
الإعجاب وحده لا يكفي دافعاً لمزاولة الرياضة، حتى وإن كان في مقدور الأهل ذلك. يوسف (9 سنين) متيم بالنجم الأرجنتيني ليونيل ميسي. صوره تغطي غرفته. ولأن يوسف يعاني زيادة في الوزن يعود جانب منه إلى استعداد وراثي، والآخر بسبب أسلوب حياته، حيث الصيف سهر أمام التلفزيون أو الكومبيوتر، وأيام الدراسة مذاكرة وما تيّسر من تلفزيون. فقد أجبره والده على خوض تجرية الجمباز في سن الرابعة، وحين فشلت الجهود لبكائه المستمر، وجد نفسه واقفاً في ملعب التنس ومطالباً بالجري وهو لا يحبه. ومن التنس إلى السكواش وهو ألعن وأضل سبيلاً للكسالى. وكانت المحطة الأخيرة في حوض السباحة حيث تعلم أن يطفو بعد جهد جهيد وتهديد ببيع التلفزيون، ووعيد بإلقاء الكومبيوتر من النافذة.
وتظل نافذة الصغار من القادرين على سداد كلفة الرياضة والراغبين في مزاولتها مفتوحة على الملاعب والمسابح. ليلى (12 سنة) تلعب التنس الذي تعشقه منذ كانت في السادسة من عمرها. كذلك علي (14 سنة) بطل السكواش الذي يستمد جزءاً من شعبيته في المدرسة وبين أصدقائه بسبب بطولاته المتتالية.
وبينما تتـــوالى الدراسـات المؤكدة على أهمية الرياضة في حياة الصغار، وتنشئة المراهقين، وصحة الشباب. تتـوالى كذلك المشاكل المتشابكة التي تقف حائلاً بين الفقراء والبسطاء ورياضة الصغار إلا فيما ندر.
وتظل عبارة «العقل السليم في الجـسم السلــيم» مقولة يكتبها الصغار في حصة التعبير ويسطرونها على جريدة الحائط، ويورثونها لأبنائهم من بعدهم، شرط أن تبقى حبيسة الكراس.
المصدر : http://almadenahnews.com/article/324797-العقل-السليم-في-الجسم-السليم-للتعبير-فقط